كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي: هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع: والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة، لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسًا في صحة عقله، واختلاله، وفي سكره، وصحوه من الكسر، ونحو ذلك.
وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر، وسلامة إقراره من المبطلات، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في نيل الأوطار.
ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز، وقد دلت روايات حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدري أمجنون هو أم لا، صاح هو أو سكران. بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفًا. «أبك جنون» وسؤاله صلى الله عليه وسلم لقومه عن عقله، وسؤاله صلى الله عليه وسلم أشرب خمرًا، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، وكل ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحًا ينفي كل احتمال، لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبًا للحد.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: «إنه زنى لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» قال: لا. قال: «أفنكتها لا يكنى» قال: نعم. قال: فعند ذلك أمر برجمه وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعًا.
فأظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافًا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد، لأن شرط صحة البينة الإنكار، وهذا غير منكر.
وقال ابن قدامة في المغني: إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة. اهـ. وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات، ثم رجع عن إقراره، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة. فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل، لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقًا، سواء تقادم عهده، أو لم يتقادم، وكذلك شهادة البينة، فإنها تقبل، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن، لأن عموم النصوص يقتضي ذلك، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها، خلافًا لأبي حنيفى ومن وافقه في قولهم، إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير.
وقال ابن قدامة في المغني: وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: لا أقبل بينة على زنى قديم وأحده بالإقرار به، وهذا قول ابن حامد، وذكره ابن أبي موسى مذهبًا لأحمد اه منه.
أما قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحد به فلا وجه للعدول عنه بحال، لأنه مقر على نفسه، ولا يتهم في نفسه.
وأما شهادة البينة بزنا قديم، فالأظهر قبولها، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفًا. وحجة أبي حنيفة، ومن وافقه في رد شهادة البينة على زنا قديم، هو أن تأخير الشهادة، يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد.
وقال في المغني: ومن حجتهم على ذلك ما روي عن عمر أنه قال: أيما شهود شهدةوا بحدّ لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن، ثم قال رواه الحسن مرسلًا، ومراسيل الحسن ليست بالقوية اه منه.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أنه إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته وقالت: إنه لم يزن بها.
فأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره، وحد القذف أيضًا، لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف.
وقال في المغني: وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا حدّ عليه، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكومًا بكذبه.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين.
الأول: أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارًا صحيحًا، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح. بل نحن لم نصدقها، ولم نقل إنها صادقة، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع، لأنها لم تقر، ولم تقم عليها بينة، فعدم حدها لانتفاء مقتضية لا لأنها صادقة كما ترى.
الأمر الثاني: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا طلق بن غنام، ثنا عبد السلام بن حفص، ثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا أتاه، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة، فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها اه منه. وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين، وتوثيقه ابن معين، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي: إنه غير معروف، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح، لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه. وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضًا، ويدل عليه عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية. والأخذ بعموم النصوص واجب، إلا بدليل مخصص يجب إليه، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفًا عند أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وحده للزنا والقذف معًا هو الظاهر لوجهين:
الأول: أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قذف اه منه. وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم لقذفها بل حده فقط، فإن ترك حده له يوجه بما قدمنا قريبًا.
وعلى كل حال فمن قال: زينب بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا، وقاذف لها هي به، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه، وحده أيضًا حد القذف، ولأنه قاذف بلا شك كما ترى.
ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا موسى بن هارون البردي، ثنا هشام بن يوسف عن القاسم بن فياض الأبناوي، عن خلاد بن عبد الرحمن، عن ابن المسيب، عن ابن عباس: أن رجلًا من بني بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مائة وكان بكرًا، ثم سأله البينة على المرأة، فقالت: كذب والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده حد الفرية ثمانين. اهـ منه.
فإن قيل: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسنالده القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني، قال فيه ابن حجر في التقريب، مجهول، وقال فيه الذهبي في الميزان: ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين، فالجواب من وجهين:
الأول: أن القاسم المذكور قال فيه أبو داود ثقة، كما نقله عنه الذهبي في الميزان، والتعديل يقبل مجملًا، والتجريح لا يقبل مجملًا كما تقدم.
الثاني: أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف، وحد الزنا إن قال: إنه زنى بامرأة عينها فأنكرت، معتضد اعتضادًا قويًا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف.
فالحاصل: أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا، وهو مذهب مالك، وقد نص عليه في المدونة خلافًا لمن قال يحد حد الزنا فقط، كأحمد والشافعين ولمن قال: يحد حد القذف فقط، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مالك وأصحابه: من أن الرجل لو قال لامرأة: زنيب فقالت له: زنيت بك أنها تحد للقذف، وللزنا معًا ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أنه لا يصح إقرار المكره، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقر بالزنا فأقر به مكرهًا لم يلزمه إقراره به فلا يحد، ولا يثبت عليه لزنا، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبنية والإقرار، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على وجه المطلوب أما ظهور الحمل بامرأة، لا يعرف لها زوج ولا سيد، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحد به. فقال بعض أهل العلم: الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيد يثبت عليها به الزنا، ويجب عليها الحد به، وقد ثبت هذا في حديث عمر رضي الله عنه الذي قدمناه في قوله: إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف. والحديث المذكور في الصحيحين، وغيرهما كما تقدم. وقد صرح فيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبينة والإقرار، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا، عمر رضي الله عنه كما رأيت، ومالك، وأصحابه. وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحد بمجرد الحبلن ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي، وأبي حنيفة، وجماهير أهل العلم، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه أدلتهم.
أما الذين قالوا: إن الزنا يثبت بالحمل، إن لم يكن لها زوج ولا سيد، فقد احتجوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا كالبينة الإقرار.
وقال ابن قدامة في المغني: إنما قال من قال: بوجوب الحد وثبوت الزنا بالحمل، لقول عمر رضي الله عنه، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء، إذا كان محصنًا، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي أن عثمان أوتِيَ بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم، فقال عليّ: ليس لك عليها سبيل قال الله.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو من هذا، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إن الزنا زنا آن: زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر: أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية: أن يظهر الحبل أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي. وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف، فيكون إجماعًا. انتهى محل الغرض من المغني.
وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة، وهذا هو حاصل ما احتج به من قال: إن الزنا يثبت بالحمل.
وأما الذين قالوا: إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا، ولا يجب به الحد، بل لابد من البينة أو الإقرار، فقد قال في المغني: حجتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات، وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها، أو بفعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك.
وأما قول الصحابة: فقد اختلف الرواية عنهم فروى سعيد: حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا هاشم: أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليس لها زوج، وقد حملت فسألها عمر فقالت: إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع عليّ رجل، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد. وروى البراء بن صبرة، عن عمر أنه أوتي بامرأة حامل، فادعت أنها أكرهت فقاتل: خلّ سبيلها، وكتب إلى أمراء الأجناد، ألا يقتل أحد إلا بإذنه. وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل. وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت، ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات، وهي متحققة هنا. اهـ منه بلفظه من المغني.